التطويبة الخامسة:
طوبى للرُّحماء فإنهم يُرحَمون
قدمّت لنا التطويبات الأربع الأولى صورة عن الإنسان الذي له علاقة صحيحة مع الله، مؤمناً بمحبتهِ الأبوية التي تعتني به وتُدبِّر له حياتهِ، وهو يمتلِك علاقة صحيحة مع الإنسان(القريب) الذي اختاره الله ليتقاسم معه الحياة. وأولُ خبرةٍ، عليه أن يتقاسمها معه، هي أن يُظهِر له صورة حيّة وصادقة عن محبّة الله الأبوية ورحمتِهِ التي قبلتهُ "محبوباً وألبستهُ ثوبَ البنوّة بفرحٍ" رُغمَ ضعفهِ وميوله الشريرة، فيكون رحيماً مع القريب ويُشفِق عليه ويُعامله بالإحسان، ويُحبهُ مجاناً، كما أَحبَّهُ الله مجاناً، فيُظهِر في شهادة حياته قبسا ًمن البهاء الإلهي.
فكلُّ مَن يتبعْ ربّنا يسوع، عليه أن يكون رحيماً وطاهر القلب ويبني السلام ويتوقّع أن يكون عُرضة للإضطهاد والرفض، وهو موضوع المجموعة الثانية من التطويبات، وسيتقدّم ربّنا يسوع الجميع ليكون أُنموذجاً للرحمة والطهارة والسلام، بل سيُرفَض ويُعذَّب ويُهان ويُضطهَد. وهكذا ستبنى الجماعة (الكنيسة) بممارسة الرحمة، وتحقيق العدالة الإلهية:
"وأَنتُمُ الَّذينَ اختارَهمُ اللهُ فقَدَّسَهم وأَحبَّهم، اِلبَسوا عَواطِفَ الحَنانِ واللُّطْفِ والتَّواضُع والوَداعةِ والصَّبْر. اِحتَمِلوا بَعضُكم بَعضًا، واصفَحوا بَعضُكم عن بَعضٍ إِذا كانَت لأَحَدٍ شَكْوى مِنَ الآخَر. فكما صَفَحَ عَنكُمُ الرَّبّ، اِصفَحوا أَنتُم أَيضًا، والبَسوا فَوقَ ذلِك كُلِّه ثَوبَ المَحبَّة فإنَّها رِباطُ الكَمال. ولْيَسُدْ قُلوبَكم سَلامُ المسيح، ذاكَ السَّلامُ الَّذي إِلَيه دُعيتُم لِتَصيروا جَسَدًا واحِدًا. وكُونوا شاكِرين. لِتَنزِلْ فِيكم كَلِمَةُ المسيحِ وافِرةً لِتُعلِّموا بَعضُكم بَعضًا وتَتبادَلوا النَّصيحةَ بِكُلِّ حِكمَة. رَتِّلوا للهِ مِن صَميمِ قُلوبِكم شاكِرين بِمَزاميرَ وتَسابيحَ وأَناشيدَ رُوحِيَّة. ومَهْما يَكُنْ لَكم مِن قَولٍ أَو فِعْل، فلْيَكُنْ بِاسمِ الرَّبِّ يسوع تَشكُرونَ بِه اللهَ الآب. (قولسي 12: 12- 17)
الرحمة في الكتاب المقدس
يستخدم الكتاب المُقدس لفظتين عبريتين للتعبير عن الرحمة. الأولى "راحاميم" وتُترجَم عادة بـعبارة "الرأفة" في العربية، وهي تُعبّر عن ارتباطٍ غريزي بين كائنين يتمركّز في بطن الأم "الرحم: ريحيم" كما وردت على سبيل المثال في الجدال الذي دار في ديوان الملك سليمان حول عائدية إبنٌ حيّ إلى إحدى المرأتين: "فكلَّمَتِ المَلِكَ المَرأَةُ الَّتي ابنُها الحَيّ؛ لأنّ أَحْشاءَها تَحرَكَت على ابنِها، وقالَت: "أًرجوكَ يا سَيِّدي. أَعْطوها الوَلَدَ حَيًّا ولا تَقتلوه". فقالَتِ الأُخرى: "بل لا يَكونُ لي ولا لَكِ. أُشطُروه". فأَجابَ المَلِكُ وقال: "أَعْطوا هذا الوَلَدَ الحيَّ ولا تَقْتُلوه؛ لأِنها هي أُمُّه". (1 ملوك 3: 26- 27). فـ"راحاميم" شعور كياني يُحرِّك الشخص تجاه الآخر حناناً. ويمكن ترجمتها بكلمة "أحشاء" إشارةً - على نحوٍ خاص- إلى الحشا الأبوي، فنفهم –على هذا النحو- محبة الله لشعبه محبةَ أمٍّ لابنها. هكذا يُقدِّمها لنا النبيُّ أشعيا: "أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى ولو نسيت النساء فأنا لا أنساك" (أشعيا 49، 15). إن محبة من هذا النوع تعني إفساح مجالٍ للآخر ليأخذ مكانا ًفي داخلي، فأشعر وأتألّم وأفرح مع القريب: "تَذَكَّرَ عَهدَه لَهم وأَشفَقَ بحَسَبِ مَراحِمِه الوافِرَة" (مز 106: 45)، أو أغفر له الإهانة التي ألحقتها به: "وللسَّيِّدِ إِلهِنا الرَّحمَةُ والمَغفِرَة، لأِنَّنا تَمَرَّدْنا علَيه." (دانيال 9: 9).
أما التعبير العبري "حيسيد"، الذي يُترجَم عادة إلى العربية بالرحمة، فيُشير إلى "التقوى" أي العلاقة الروحية التي تربط كائنين معاً، والنابعة من الأمانة الشخصية تجاه العلاقة مع الآخر. وهي تُطبّق على الله وتُعبِّر عن أمانته التي لا تنكثُ بالعهد لشعبه، فهو يُحبُّه ويغفر له للأبد. فعلى الرغم من موقف الإنسان الخاطئ، والذي يستحق قصاصاً، يبقى حبُّ الله الآب، أميناً ويغفر على الدوام للإنسان التائب. فالرحمة تتضمّن المغفرة على الدوام، فهي- وعلى حدّ تعبير البابا فرنسيس- "ليست فكرة مجرّدة بل حقيقة ملموسة يُظهِر من خلالها (الله) محبته كأبٍ وأمٍّ يتأثران حتى الأحشاء من أجل ابنهما. ... تنبثق من الداخل كشعور عميق وطبيعي، مكوّن من الحنان والشفقة، التسامح والمغفرة".
فحين يكون التعبير الأول "راحاميم" فالمعنى هو: تحركٌ نحو الآخر، في حين يأتي التعبير الثاني "حيسيد" ليُشيرَ إلى تحركٍ نحو الذات. فالله، إذ يُقابِل الإنسان شريكهُ في العهد، يكون رحيماً "راحاميم" معه، وعندما يغفر له خطاياهُ يكون رحمة "حيسيد"، فهو يُعبّر عن طبيعتهِ، التي لا يُمكن أن يُخالِفها.
أما العهد الجديد فيحدثنا عن الرحمة الإلهية (إيليوس) كخلاصة لعمل يسوع الذي جاء ليحققه باسم الآب في العالم (راجع متى 9، 13). فرحمة ربنا تظهر بنحوٍ خاص عندما ينحني على البؤس البشري ويُظهر رأفته تجاه الذين يحتاجون للتفهُّم والشفاء والمغفرة. كلُّ شيء في يسوع يتحدث عن الرحمة، لا بل هو الرحمة بحد ذاتها التي تستجيبُ لحاجات الإنسان: الحياة (الخلقة)، الشرِكة (التدبير الإلهي) والغفران (الفداء). ربّنا يسوع هو قلبُ الله النابض بالرحمة تجاه الإنسان، فيتعاطف مع الإنسان ويعمل على انتشالهِ من واقعه المُزري. فالرحمة هي البُشرى السارة: "مغفورة لك خطاياك".
مَن هو الرَّحُوم؟
الرَّحُوم: إنسانٌ يشعرُ بأن الله وهبَهُ حياة جديدة بعد موتِ الخطيئة. فرحمة الله لا تتجاهَل واقع الخطيئة وتتنكر له، بل تتجاوزهُ؛ لتهِبَ للإنسان بدايةً جديدة. لذلِك نجد، كيف أن ممارسة الرحمة صارت واحدة من أهم المُتطلّبات الدينية في اليهودية؛ لأن الله خالقهم "رحوم ورؤوفٌ وطويلُ الأناة"، وأظهرَ رحمتهُ لهم، فعليهم أن يرغبوا في الرحمة (ميخا 6: 8)، وأن يسعوا إلى تحقيقها في حياتهِم. إيمانهُ (قبوله) بمحبّة الله المجّانية ورحمته وصبرهِ غير المحدود: "الرَّبُّ الرَّبّ! إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء، يَحفَظُ الَرَّحمةَ لأُلوَف، وَيحتَمِلُ الإثمَ والمَعصِيَةَ والخَطيئَة" (خر 34: 6-7)، يجعلهُ يسمح للرحمة الإلهية التي أفاضت عليه نعمةً أن تشعَّ فيه، ومن خلاله إلى الآخرين. تلقّى الرحمة ويُريد أن يُبرِهِن على حقيقتها في حياتهِ عبرَ الإلتزام بحياة القريب (عدالة)؛ لأنه يشعرُ بأنه مسؤول عنه وعن ديمومةِ حياتهِ حتّى وإن لم يكن هو سبباً لتعاستهِ، على مثال السامري الرحيم الذي جعلهُ ربّنا يسوع أُنموذجَ الإنسان الذي هو على قلبِ الله (يرغب بالحياة الأبدية)؛ لأنه عامَل القريب بالرحمة. ومعاملة الآخرين بالرحمة إستجابة عادلةٌ للإنسان المؤمن برحمةِ الله: رُحمتُ ولم أكن أستحق الرحمة، فعليَّ أن أرحم.
الرَّحُوم: إنسانٌ قادرٌ على أن يشعرَ بآلامِ الآخرين ومآسيهِم، وكأنها مآسيه وآلامهُ هو. مُستعدٌ لأن يتحمّل هذه الآلام من أجل تحقيق الشفاء والسلامِ للقريب المحتاج، مؤمناً أن موقفهُ الرَّحُوم هذا تعبيرٌ عن حاجتهِ الماسّة لأن يُرحَم: "لأنهم يُرحمونَ"، فهو عندما يرحَم لا يعد نفسه خارج حلقة "المُحتاجين إلى الرحمة "، بل هو ضمنَ هذه الحلقة، وعليه أن يقف أمام الله بكل تواضعِ طالباً الرحمة؛ لأنه يشعر بمسؤوليته الإنسانية أمام حاجة الآخرين وألمهم، وأول إلتزامٍ مسؤول هو أن ينتبهِ إلى واقعهم المزري ويقف إلى جانبهم ويُصلِّي معهم ولأجلهِم لينال (هو وهم) الرحمة، ويعمل على تغيير واقعهم، مدركاً أنه بأمس الحاجة إلى رحمة الله ومحبتهِ، كما عبّرت القديسة تريزيا الطفل يسوع عن ذلك حين قالت:
"عندما ينتهي زمن منفاي على الأرض، رجائي أن أذهب وأنعمَ بكَ في الوطن. ولكني لا أريد أن أكدّس الاستحقاقات مؤونةً للسماء، أريد أن أعمل لأجلِ حُبِك وحده (...). في مساء هذه الحياة سأظهرُ أمامكَ صفرَ اليدين، لأني لا أسألُك يا ربِّ، أن تحسِب أعمالي. فكل بِرّ فينا لا يخلو من العيب في عينَك. أريد إذن أن أتلبَّسَ برِّكَ أنت، وأن أقتبلَ من حُبِّك: امتلاكك أنت إلى الأبد".
الرَّحُوم: إنسان يشعر بحاجة الآخر قبل أن يقولها. فنجده إلى جانب مَن فقدَ الرجاء، فلم تعد الحياة عنده نعمة من الله عليه أن يقبلها شاكراً، بل أضحت مُرهِقة لا فرحَ فيها. نسمعهُ صوتاً لمَن هو في ضيقٍ وهو عاجزٌ عن التعبير عن ضيقه، خَجِلٌ من طلب العون، فيكون حضور الرحيم-هنا- "نعمة" مثلما فعلت أمُّنا مريم في عُرس قانا الجليل إذ انتبهَت إلى الحَرج الذي اختبره أهل العُرس وعرِفت حاجاتهم وطلبت من ابنها ليكون إلى جانبهم فيما يحتاجون إليه. فالرحيم، هو مَن يستقبل المُحتاج بابتسامة ولا يُحاول إرجاعه مَهموماً لأنه يرى في وجهه وعيونه جودة الله، فيُعطي بقلبه قبل أن يُعطي بيديه. الرحيم واقف دوماً على قارعة الطريق مستعداً لشفاء كل ما يحتاج إلى الشفاء، ومستعداً لغفران كل مَن هو بحاجةٍ إلى الغفران؛ لأنه يعرِف إنه انسان غُفر له حين كان مذنباً، ومسّته رحمة الله عميقاً، حتى صار مرآة تعكس رحمة الله. هو إنسان حررته رحمة الله من كل غضب وحقد ورغبة انتقامٍ ليعيش حُرية أبناء الله الرحيم.
الرَّحُوم: إنسان ناضجٌ قادرٌ على تجاوز أحكامهِ المُسبَقَة عن الآخرين، ويضع جانباً رؤيتَهُ الشخصية عن الآخر، ويروِّض مشاعِر الغضب والعداوة التي فيه تجاهه ليُعامِله على وفق احتياجاته الآنية مُستجيباً لواقعه المؤلِم. فالرحيم يجعل الحياة على الأرض ممكنة. فكلما سيطر الغضب على الإنسان، تأججت فيه مشاعر الانتقام ليقتل كل فرص الحياة. عندما يرَحم فهو يُعطِي الفرصة من جديد ويتجاوز الغضب والعداوة ليغلِبَ الشر بالخير؛ فلو انتقم كل شخص لما يُصيبه من إهانات، لما كان هناك حياة على الأرض. الحياة ممكنة من خلال أولئك الذين سمحوا للروح القدس أن يعمل في قلوبهم، فيرحموا ويغفروا، وفي ذلِك حكمةٌ يهبهُا الله نعمةً للإنسان المُصلّي إليه: "أَفيكُم أَحَدٌ ذو حِكمَةٍ ودِرايَة؟ فَليُظهِرْ بِحُسنِ سِيرتِه أَنَّ أَعمالَه تُصنَعُ بِوَداعَةٍ تأتي مِنَ الحِكمَة أَمَّا إِذا كانَ في قُلوبِكم مَرارةُ الحَسَدِ و المُنازعة، فلا تَفتَخِروا ولا تَكذِبوا على الحقّ. فمِثلُ هذه الحِكمَةِ لا تَنزِلُ مِن عَلُ، وإِنَّما هي حِكمَةٌ دُنيَوِيَّة بَشَرِيَّةٌ شَيْطانِيَّة. فحَيثُما يَكُنِ الحَسَدُ والمُنازعة، يَكُنِ الاِضْطِرابُ ومُختَلِفُ أَعمالِ السُّوء. وأَمَّا الحِكمَةُ الَّتي تَنزِلُ مِن عَلُ فهيَ طاهِرةٌ أَوَّلاً، ثُمَّ مُسالِمَةٌ حليمةٌ سَمْحَة مِلؤُها رَحمَةٌ وثِمارٌ صالِحة، لا مُحاباةَ فيها ولا رِياء. ثَمَرَةُ البِرِّ تُزرَعُ في السَّلامِ لِلَّذينَ يَعمَلونَ لِلسَّلام. (يعقوب 3: 13- 18)
الرَّحُوم: إنسان أمينٌ في علاقاتهِ؛ لأن الله كان أميناً في محبتهِ له على الرغم من ضعفهُ وميولهِ الشريرة التي جعلته إنساناً خائناً للعهود. محبّة الله الأمينة قبلتهُ مُجدداً، وجعلته يتعلّم الأمانةَ في العلاقات على الرُغم من خيانات الصديق، فلا يقبل بأن تتملّكه مشاعر الغضب والضغينة ضدَّ اي إنسان حتّى لو أساءَ إليه: "وقالَ الرَّبّ: "سِمعان سِمعان، هُوذا الشَّيطانُ قد طَلَبكُم لِيُغَربِلَكُم كَما تُغَربَلُ الحِنطَة. ولكِنَّي دَعَوتُ لَكَ أَلاَّ تَفقِدَ إِيمانَكَ. وأَنتَ ثَبَّتْ إِخوانَكَ متى رَجَعْتَ" (لو 22: 31- 32). وعندما يكون أمينا في علاقاتهِ ويرحَم سينالُ الرحمة؛ "لأَنَّ الدَّينونَةَ لا رَحمَةَ فيها لِمَن لم يَرحَم، فالرَّحمَةُ تَستَخِفّ بِالدَّينونَة" (يعقوب 2: 13).
الرَّحُوم: إنسان قَبِلَ محبّة الله ويرغَب في أن يّوسِّعَها لتشمِل الآخرين، فيشعُر أنه مسؤول عن حياة الجميع: المعارِف والأصدقاء، بل حتّى الأعداء، كما فعلَ إبراهيم والذي عرِفَ أن الله عازمٌ على التحقيق في الشكاوى التي وصلتهُ عن مدينتي سدوم وعمّورة، إذ وقفَ أمام الرب حاملاً إنسانيّته كلّها، في محاولة للدفاع عن شريكه(الله)، وعن(قريبهِ)الإنسان؛ لئلا تسوء هذه العلاقة بينهما. إنسانية إبراهيم تحتضن انتماءَه القومي وتتجاوزهُ، فهو يشعر بأنه مسؤول عن إنسانية الآخر الذي يختلَف عنه ديناً وثقافةً. هو مسؤول عن إنسانية العالم كلّه. هنا يتكامل البُعد العمودي لإيمان إبراهيم مع الله، مع البُعد الأفقي علاقة إبراهيم مع الآخرين، فيظهر تضامناً مع الجميع، ويسأل الله أن تتوسع حدود رحمته لتستوعِبَ عدله إلى أن يصلَ إلى بشارة مُفرحة: يا إبراهيم يُمكن لأبرار قلائل أن يُخلصوا مدينةَ أشرارٍ. فبيّنَ الربُّ من جهتهِ أنه مُهتمٌ بخلاص البار أكثر من هلاك الأشرار: "لا أُزيلُ المدينة إكراماً للعشرةِ" (تكوين 18: 32). شعر إبراهيم بمسؤولية دعوته: "بك تتباركُ الأمم". إنها بركة مصدرها محبّة الله المجانية التي اختارته، الله الذي ليس إلهاً غضوباً، بل له قلبٌ يضطربُ ومراحمه تتّقد، فلن يُعاقبَ في شدّةِ غضبه؛ لأنه قدّوس (هو 11: 8- 9).
الرَّحُوم: إنسان أصغى إلى بشارة الله بيسوع المسيح: "كونوا رحماء، كما أن أباكم السماوي رحيم (لوقا 6: 36)، وآمنَ بها ويعمل على تجسيدها واقعا في حياتهِ، فلا يدين الآخرين ويُحاكمهُم (لوقا 6: 37)، ولا يُثرثِر حسداً أو نفاقاً، ولا ينقل تفاهات الكلام عن الناس، ولا يتكلّم بالسوء عن الإخوة، لاسيما في غيابهم، ولا يُسيء إلى اسمهم وسمعتهِم ومكانتهِم. يُسامِح ويتخلى عن الحقِد والغضَب والعنف، لا ينصِّب العثار في طريق الناس ولا يزرع الريبة والحَيرة في قلوب الآخرين، يرى الخير الذي زرعهُ الله في الآخر حتّى وإن كان الآخر لا يتفطنُ إليه، ليكشِف عن قلبٍ نقي خالٍ من الخُبث والرياء والحسد والغضب والكبرياء، ليس هذا فحسب، بل هو إيجابي في التعامل مع الحياة، مؤمناً أن الله منحهُ "خدمته بمحبة" من خلال "خدمة الآخرين": "الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه." (متّى 25: 40). فيصير إنسانًأ بحق حقيقياً وصديقاً أميناً للجميع، قريبا من الفقراء، ورفيقاً للمرضى، ومُعزيا للمتألمين، يقدّم النُصحَ الأخوي بمحبةٍ. يزرعُ السلام بين العائلات المُتخاصمة، ويسعَى إلى تحقيق المُصالحة بينهما مهما كلّفه ذلك من جهدٍ. ويعمَل كل هذا بفرح (روم 12: 8)، يُشجع ويُبادِر بالكلام الحسن والصالِح للبُنيان (أفسس 4: 29)؛ لأنه مخلوق على صورة الله الذي يُبدِع كل ما هو حسَن وحسن جداً (تك 1: 31).
ربّنا يسوع المسيج: وجه رحمة الآب
كتبَ البابا فرنسيس في "البراءة الرسولية" التي أصدرها بمناسبة احتفال الكنيسة بسنة الرحمة، أنّ الله أظهر في يسوع "رحمة"، فهو وجه رحمة الآب، فصارت الرحمة في ربّنا يسوع منظورة وملموسة. هذا إيماننا الذي نحتفل به شاكرين؛ لأنه إيمانٌ يبعث فينا طمأنينة وسلاماً في أنَّ الله بمحبتهِ تغلّب على خطايانا وتجاوز عثرتنا وقبلنا من جديد أبناءً له، وهو يدعونا إلى أن ننظر إلى الآخرين بعيون الرحمة، فنَرحَم ونرأف ونقبَل مَن تجاوزَ علينا، ونمد يد المُصالحة إلى مَن يُعادينا فنكشِف عن هويتنا: "نحن مَن أحبّهم الله ورحمهم وترأف بهم".
"تجسّد ربّنا يسوع المسيح كان إتمام وعدِ الله للآباء، وعدُ رحمةٍ: "نصَرَ عَبدَه إسرائيل ذاكِراً، كما قالَ لآبائِنا، رَحمَتَه لإِبراهيمَ ونَسْلِه لِلأَبد" (لو 1: 51)، ولم تكن كلمة الله الأخيرة، ربّنا يسوع المسيح، كلمة مُعاقِبة، ولم يُعلِن الله حُكمَ الهلاكِ على الإنسان الخاطئ منتقماً لنفسهِ من أجل الإهانات التي تلّقاها، بل واجه خطيئة الإنسان بالغفران وهداهُ طريق الخلاص بالرحمة والرأفة التي قدّمها بيسوع المسيح. رحمةٍ أعطت الإنسان حياة جديدة؛ لأن الرحمة لا تتعلَّق بماضي الإنسان إذ تغفِر له خطاياهُ فحسب، بل هي مُوجهة نحو حاضره ومُستقبله فتمنحه حياةً جديدةً، فهو "محبوبُ الله"، وعليه أن يعيش هذه الرحمة إلتزاماً مُحباً بالقريب.
هذا الغفران نابعٌ من محبّة الله التي تجعلهُ يُصغي إلى الإنسان في حاجاتهِ ويواجه خطاياهُ مترحماً عليه، سامحاً له بإعادة العلاقة من جديد، ليأتي الغفران نعمةً مجانية لإنسان لا يستحقّها، ودعوةً لأن يلتزِم بالعهد أميناً:" إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة" (يوحنّا 8: 11)، فهذا هو الذي يجب أن يحصل من أجل أن يكونَ الإنسان صالحاً. ربّنا يسوع لم يتجاهل خطيئة المرأة ولم يُبررها بالقاء المسؤولية على الآخرين أو على الظروف التي دفعتها إلى ذلك، بل تتحمل هي المسؤولية؛ لأنها إنسانة حُرّة ومسؤولة عمّا حصل، وهي تقبلُ غفران يسوع الذي يُؤكِد لها أنها لن تُحبَس في خطاياها. فهو الذي جاء ليُحرر المسجونين ويُطلق سراحَ مَن أسَّرَتْهم الخطيئة (لوقا 4: 18- 19). هذا التحرير هو عملية تطهير، أي إستحضار الماضي (الخطيئة) وتغييرهُ، حتّى لا يتكرر، بل يكون بدءاً جديداً، وقيامةَ لإنسان جديد. وهذه نعمةٌ من الله الغافِر. هكذا تتضمن الرحمة دينونة (عدالة) ولكنها تتجاوزها في الوقتذاته.
أكدّ ربّنا يسوع على أنه يُريد الرحمة لا الذبيحة (متّى 9: 13)، وجعل رحمة الله وحنانَهُ واقعاً اختبره الإنسان في حياتهِ ليتعلّم الإنسان معنى الرحمة ومضمونها. لم يُدِن الخطأة أو يحتقرهم، بل دعاهم إلى قبول البشارة: الله يُحبُكم. أشفقَ على المعوزين روحيا ومادياً، ولم تكن الشفقة عاطفة نكرة، بل تحركاً فعّالاً نحو الآخر. أشفقَ على الشعب الجائع إلى الخبز: "فلَمَّا نَزَلَ إِلى البَرّ رأَى جَمعاً كثيراً، فَأَخذَتْه الشَّفَقَةُ علَيهم، لِأَنَّهم كانوا كَغَنَمٍ لا راعِيَ لها، وأَخَذَ يُعَلَّمُهم أَشياءَ كثيرة." (مرقس 6: 34)، وتحنّن على المرضى: "فأَشفَقَ عليهِ يسوع ومَدَّ يَدَه فلَمَسَه وقالَ له: "قد شِئتُ فَابرَأ" (مرقس 1: 41).
رحمةُ ربّنا يسوع وحنانه مثل رحمة الله وحنانه، لا يتعب ولا يكِلُّ، يتغلّب على خطيئة الإنسان: "فقالَ يسوع: "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لوقا 23: 34). فالغفران كان الكلمة الأولى من على الصليب. هذا كلّه ليعلّم الإنسان كيف يكون رحوماً على مثال الآب، رحمةً تخدُم الآخر؛ فيكون الإنسان قريبا من الجياع والعطاش والحزانى والمرضى، عطوفاً تجاه الغرباء، مُعزياً للحزانى وغافراً للخطأة. فالرحمةمن طبعها الخدمة، وخدمتها تعني خلاص الإنسان وتَهَبُه الفداء. هناك إرتباطٌ وثيق ما بين الرحمة والخلاص، فالرحمة لا تتوقف عند خدمةِ حاجاتِ الآخر المادية فحسب، بل تتعدّى ذلك لتُعرّفه بالخلاص الذي جاء به ربنا يسوع المسيح الطريق الحق إلى الله الآب. الرحمة خدمةٌ تُؤدَّى للآخر لتقرِّبَهُ إلى الله.
ربّنا يسوع عاش الرحمة الإلهية وبيّن أن الرحمة هي التي نُفرِح قلبَ الله، ففي الفصل الخامس عشر من إنجيل لوقا نسمع ربّنا يسوع يُحدّثنا عن "الله الآب الرَّحُوم" من خلال أمثال الرحمة الثلاثة: مثل (الخروف الضال)، مثل (الدرهم الضائع) ومثل (الابن الضال). وأكثر ما يُدهشنا في الأمر هو فرح الله، الفرح الذي يشعر به عندما يجد خاطئاً ويغفر له، فرحٌ تحولَّ إلى عُرس ٍووليمة. هنا نجد خلاصة الإنجيل بأسره، فالجميع ضائعٌ وتائهٌ وأساءَ استخدام حريّتهِ بحثا عن "متعةٍ وسعادة عابرة"، فأضاع كلّ شيء. لكن اللهالآب لا ينسانا ولا يتركنا أبدًا. إنه أب صبور ينتظرنا على الدوام، يحترم حريتنا ويبقى أميناً أبداً وعندما نعود إليه يستقبلنا كالأبناء في بيته؛ لأنه لا يكفُّ أبداً عن انتظارنا بمحبة، وقلبه يعَيِّدُ بكل ابن يعود إليه. يُعَيِّد بسبب الفرح، والله يفرح عندما يذهب إليه خاطئ من بيننا ويطلب مغفرته؛ لأن الله يُريدُ عودتَهُ إليه: "يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ، لَيسَ هَوايَ أَن يَموتَ الشِّرِّير، بل أَن يَرجعَ عن طَريقِه فيَحْيا" (حزقيال 33: 11).
"فلْيَكُنْ فيما بَينَكُمُ الشُّعورُ الَّذي هو أَيضاً في المَسيحِ يَسوع" (فيلبي 2: 5)، هي دعوة من الرسول بولس للكنيسة كلّها لتندمج في حركة الرحمة الإلهية التي نلناها من الله الآب هبةً بيسوع المسيح، وهكذا تكون الجماعة (الكنيسة) كنيسة الرحمة. ربّنا يسوع يُريد من كنيستهِ أن تكون جماعة الرحمة لا الذبيحة مؤكداً بذلك على أولية الرحمة في حياة الكنيسة، وتكون معياراً لمصداقيتها. فتُمارس أعمال الرحمة الروحية: التعليم والنُصح والتعزية والتشجيع والمغفرة واحتمال الصعوبات والآخرين بصبرٍ، مثلما تلتزم بأعمال الرحمة الجسدية: الإحسان وإطعام الجياع وإيواء المُشرَدينَ وإكساء المُحتاجينَ والعناية بالمرضى وزيارة المسجونين ودفن الموتى.
أسئلة للتأمل الشخصي:
- هل تشعر بأهميّة رحمةِ الله في حياتِك؟ هل هناك حادثة متميّزة أخطأتَ فيها إلى الله فشعرتَ فيها بأنّك نلتَ الرحمّة، حين تجاوز لك الله الخطيئة وغفرَ لك؟ كيف؟ هل تعامَل معكَ على وفق خطيئتِكَ، فغفرَ لك، بل ومنحكَ ثقته وحمّلّك مسؤولية جديدة، أم إنه أنعمَ عليك بما لم تتكن تتوقعهُ؟
- هل أسأتَ يوماً إلى صديق أو إنسان؟ هل كذبت في حياتك؟ هل خُنتَ صداقةً أو علاقة ولم تكن أميناً في عُهودِك ووعودِك؟ هل أخذت شيئاً ليس مُلكاً لك؟ هل حدث أن أهملت واجباتِك تجاه عائلتِك؟ هل تلفظت يوماً بكلام بذيء وحلفت باسم الله والقديسين باطلاً؟ ما الذي تطلبهُ في مثل هذه الخبرات، الغفران أو المحاسبة؟
- عندما تستمع لمَثَل العبد العديم الشفقة (متّى 18: 23- 35)، الذي دخلَ حلقة الرحمة الإلهية عندما أعفاه سيّده من الدَّيْنِ الذي كان عليه، ولكنه لم يفعل مع زميله مثلما فعل معه سيده، فكيف تجد نفسَك عادةً، مظلوماً بسبب عدم رحمة الآخرين لكَ، أم أنّ لكَ حقٌّ بأن تُطالِبَ الآخرين بأن يؤدّوا ما عليهم من التزامات؟ كيف تتقبّل شخصية الآخرين المزاجية والمتقلِّبة والخائنة؟ هل تدينهم؟ هل تقبلهم؟
- هل تُفكِر أحيانا بأن الطيبة والرحمة والغفران هي علامات لشخصية ضعيفة، وأنّها تُعطي فرصة للآخرين لسيتغلّوها لمصالحهِم؟ هل اختبرتَ مثل هذا الاستغلال؟ هل قمت باستغلال طيبة أحدِهم تجاهَك؟ أيهما أقربُ إليكَ: إنسان أخطأ فاعتذرَ وغُفِرَ له، أم إنسانٌ أخطأ واعتذرَ وأُلزِمَ بالتعويض عن خطئه؟
- هل طلبَ أحدٌ منك الغفران لإساءةٍ اقترفها ضدّك، ولم تتمكّن من ذلك؟ لماذا لم تغفر له؟ أكانت إساءته جارحة ومُهينة؟ هل تفاجأت بخيانته لك وبغشِّهِ في التعامل معك إلى حدٍّ لم يعد فيه لك ثقةٌ به؟ هل أثّرت خيانته لك على ثقتِك بالآخرين؟ كيف تستذكر هذا الحدث، اليوم؟ إذا ما تقدّم منّك اليوم وطلب الغفران فهل ستمنحهُ إيّاه؟ ما الذي تغيّر حتّى تغفر له؟
- أيُّ خبرة تجدها الأصعب في القبول: أن تغفِر لإنسان لا يعرفُك، أم أن تغفِر لصديق تثقُ به؟ هل تتذكّر خبرة "خيانة صديق"؟ ما الذي دفعهُ لمثل هذا السلوك؟ هل اعتذرَ لك عن سلوكهِ الخاطئ؟ هل طالبتهُ بالتعويض عن خيانتهِ لكَ؟ أتشعرُ بالشفقة عليه أم بالغضب منه؟ ما العلاقة بين العدالة والرحمة؟ وكيف تُحقق العدالة الرحمة (تأمَّل قصة العبد العديم الشفقة متّى 18: 23- 35).
- "أغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمَن أخطأ إلينا". هل تجد هذه الصلاة واقعاً في حياتِك؟ متى كانت آخر مرّة غفرتَ فيها (بفرحٍ) لمَن أساء إليك بالكلام أو بالفعل؟ هل تتذكّر مثل هذه الحادثة؟ هل سعيت إلى الإنتقام منه بأي شكلٍ من الأشكال؟ أَغَفَرتَ له لأنّك لم تكن قادراً على الثأرِ لنفسِكَ، أم كانت لك الفرصة كي تفعل، غير أنّك تجاوزتَ ذلك؟