المحبة في الكتاب المقدس
ماهي اعظم الوصايا؟
تتحث الاناجيل الازائية عن الحوار الذي جرى بين يسوع وكاتب الناموس ( انظر متى 22/ 34 – 40 ، مرقس 12 / 28 – 31 ، 10 / 25 – 38 ) . ينفرد لوقا في الحديث عن قصة
المحبة في الكتاب المقدس
ماهي اعظم الوصايا؟
تتحث الاناجيل الازائية عن الحوار الذي جرى بين يسوع وكاتب الناموس ( انظر متى 22/ 34 – 40 ، مرقس 12 / 28 – 31 ، 10 / 25 – 38 ) . ينفرد لوقا في الحديث عن قصة السامري عندما يسأل الكاتب يسوع : ومن هو قريبي؟ ويتفق مع يسوع للأجابة ، ان حب الله في الوصية الاولى ، وحب القريب في الوصية الثانية يمثلان جوهر الشريعة الالهية ، والوصيتان متكاملتان . لكن الكاتب اراد ان يمتحن يسوع ، وهو يفكر مثله ، يكفي الحفاظ على وصية المحبة لله وللقريب كما هي مكتوبة في الشريعة للحصول على الحياة الأبدية . لكن الكاتب يرغب في متابعة النقاش من اجل ان يزكي نفسه ، فيطرح السؤال :" ومن هو قريبي؟ ويعني بهذا السؤال : كيف يجب تفسير الوصية الالهية في محبة الله ومحبة القريب ؟
ومن هو قريبي؟
كان النقاش ، حول هذا الموضوع متداولا في مدارس الكتبة في ذلك العهد . وكان هؤلاء الكتبة يحصرون بالعموم وصية المحبة بين اعضاء الشعب الاسرائيلي ، والى جماعة الدخلاء الذين يعتبرونهم مثل اليهود ، ويقصون الغرباء وبنوع خاص السامريين الذين يعاملهم اليهود كالوثنيين . ويعادونهم بأتخاذ موقف الحقد والعداوة ، لأنهم ينحدرون من اصل وثني ( 2 ملوك 17 / 24 – 41 ، ابن سيراخ 50 / 26 ) . ويشير يوحنا في إنجيله الى هذه الحالة 4/9 . ويفترضون ان بهم شيطانا ( يوحنا 8 / 48 ) . وقد رفض السامريون استضافة يسوع في احدى القرى السامرية ، لأنه كان متجها الى اورشليم ( لوقا 9 / 52 – 53 ) .
ولم يرد يسوع الى سؤال الكاتب مباشرة ، لكنه حكى له قصة ، فيها خمسة ممثلون : رجل ، لصوص ، كاهن ، لاوي وسامري . والطريق المؤدي من اورشليم الى اريحا هو طريق استخدمه الرومانيون ، يمتد نزولا الى الوادي العميق ومن جوانبه صخور، فهو طريق صحراوي وخطر. ولا عجب ان يتعرض المسافرون فيه الى الاخطار ، ويكونوا ضحية الصوص . وهذا ما حدث للمسافر الذي سلب ، وضرب ، وترك بين حي وميت.
واتخذ الكاهن واللاوي النازلين في هذا الطريق الموقف عينه ، يبصر الاثنان الرجل المجروح ويعبران من الجهة الاخرى . ولعل الرجلان قد انهيا خدمتهما في الهيكل ، ويرجعان الى بيوتهما . وكان في اريحا عدد كبير من الكهنة . ولم يهتم لوقا في إعطاء السبب في اتخاذ هذا الموقف ، لكننا يمكن تكهنه.
نفسر موقف الشخصيتين ، الرغبة في تجنب التدنس لدى لمس هذا الرجل الذي اصبح شبه بجثة ( نصف مائت ) على حد تعبير لوقا . وبحسب الشريعة ، تصبح الجثة نجسة ( عدد 5/2 ) ومن يلمسها يتدنس خلال سبعة ايام ( عدد 19 / 11 – 12 ) . ومن يقترب من ميت " جسم شخص يموت ، ولا يتطهر حالا ، يدنس مقر الله ، يبعد من شعب اسرائيل " ( عدد 19 / 13 ، الاحبار 5 /2 ، حزقيال 44/ 25 ) .
وكان الكاهن بشكل خاص ، خاضعا لهذه التوجيهات الصارمة ( الاحبار 21 / 1 – 2 ) . لقد طبق الكاهن واللاوي هذه الشرائع بدقة ، كما تأمر الشريعة . لذا لا عجب ان نراهما يمران بجانب المسكين القريب من الموت الملقى على قارعة الطريق . وتجدر الملاحظة الى ان عبارة :" الكاهن واللاوي " يضاف اليها عادة : اولاد اسرائيل تشير في النصوص اليهودية في ذلك الوقت الى المجتمع اليهودي . وتعني العبارة ايضا " شعب الله " بالمواجهة مع الوثنيين .
هذه الملاحظات من شانها ان توصلنا الى نتيجة . ان الكاهن واللاوي يجسمان الموقف الديني عند اليهود ، المتوقف على ممارسة الشريعة حرفيا ، على حساب شريعة الروح التي يعلنها يسوع مرارا ( لوقا 11 / 37 – 54 ) .
ويعاكس هذا الموقف المتزمت موقفا اخر اتخذه السامري . وفيه مجموعتان من الافعال ، لكل مجموعة سبعة افعال ، الرقم الرمزي للكمال لما يقوم به : لقد اخذته الشفقة يقترب منه ، يضمد جروحاته ، يصب عليها زيتا وخمرا ، يحمله على دابته الخاصة ، يذهب به الى الفندق ويعتني به وفي الغد يدفع دينارين ويعطيها الى صاحب الفندق قائلا له : اعتن به ومهما تنفق فوق هذا سأدفعه لك عند عودتي . هذه اربعة عشر فعلا تقيم فيض العمل من ممارسة الرحمة التي انجزها السامري . كان موقفه كاملا من كافة النواحي . واكمل كل ما بوسعه القيام به .ان السامري الذي يبعده اليهود من محبة القريب وممارسة الرحمة تجاهه ، قد قام بعمل الرحمة ، وبهذا العمل اظهر نفسه قريبا للبائس المتروك على قارعة الطريق . وقد وافق الكاتب على ما جاء في هذه القصة، وان تجنب الكلام مباشرة عن " السامري " ولا لفظ اسم السامري المكروه ، ويعترف انه بين الاشخاص الثلاثة ، هو الذي مارس محبة القريب ازاء الرجل الذي وقع ضحية بين ايادي اللصوص. وقد اراد يسوع بالتاكيد ان يضادد موقف السامري بسلوك الكاهن واللاوي الذين ينحصر عملهما في تقديم الذبائح في الهيكل مظهرا ان ممارسة لهي اعظم من جميع الذبائح والمحرقات . وكان هذا تعليم الانبياء في العهد القديم ( هوشع 6/6 ، 1صمو 15 /22 ، مزمور 40 / 7 -9 ). وقد اتخذ يسوع هذا التعليم على عاتقه ( متى 9 / 13 ، 12 / 7 مرقس 12 / 33 ). فالقيام بتمارين العبادة لا تنفع شيئا ان لم يضع المرء نفسه قريبا لأولئك الناس المجروحين.
اي من هؤلاء الثلاثة كان قريبا؟
واذ يطرح يسوع السؤال على الكاتب : " اي من هؤلاء الثلاثة كان قريبا للرجل الذي وقع ضحية بين ايدي اللصوص؟" ،فان يسوع يقلب راسا على عقب وجهة نظر كاتب الشريعة في السؤال الذي طرحه: من هو قريبي ؟، كما يرفض يسوع الدخول في معضلة تجهيزقائمة من الناس الواجب إظهار المحبة لهم . ولا يجيب يسوع على السؤال المطروح : " فلان و فلان " بل يفجر يسوع هذه الفكرة الضيقة التي تحدد التعريف عن القريب بمن يحب ، وليس بمن يجب محبته . فلا تسال : " من هو قريبي ؟ " ، بل ينبغي عليك ان تجعل نفسك قريبا لمن هو بحاجة اليك . وجاهد بنفسك لتكون قريبا لمن هو بحاجة اليك . ليس من خلال المكان فحسب، بل بعاطفة القلب ، مقرونة بالاهتمام والغيرة . فالقربى تحدد من خلال العاطفة ، وليس بالمكان ، والشخص الذي ينبغي عليك ان تعتبره قريبا لك ، هو الذي يكون اكثر حاجة اليك ( القديس اوغسطينوس ) . وهكذا يوسع يسوع مفهوم " القريب " . والقريب هو ذلك الذي يمارس الرحمة تجاه شخص هو في امس الحاجة ، ولا يتردد من الدخول باحتكاك معه، ليظهر له الرحمة ، ويقدم له الاسعاف ، اما الكاتب ، فكان يتحدث عن القريب كهدف لممارسة الرفق وحسن الاستقبال. لكن حديث يسوع في معنى مختلف ويعرفه بموقف شخص ليظهر نفسه طيبا ، ويقترب من الاخرين. والقريب هو الشخص الذي يبتكر لنفسه القربى ، مقدما ما يتطلب من مد المساعدة ، وليس بعد المسألة ، ان كان الرجل الذي وقع بين ايدي اللصوص ، يحسب في نظر الشريعة ، كقريب ، لكن المسالة تدور حول اسعاف الغريق الذي هو بائس وضحية على غرار موقف السامري . ليس الاقتراب يثير الحب ، بل الحب الذي يبتكر القربى. فالرحمة التي اظهرها السامري تجاه الضحية الذي كان مدنفا من الموت، لهي مثال واقعي لمحبة القريب . وللحصول على الحياة الابدية ، يجب العمل المشابه في محبة القريب، والانطلاق اليه ليصبح هذا قريبا.
كان مفهوم القريب عند كاتب الشريعة يقاس بالنسبة له. وكان يبحث عن معرفة اين تكمن الحدود بين اولئك الذين كانوا " قريبين " ومن ليسوا بقريبين. اما يسوع فيتخذ نظرة اخرى مختلفة. ويجيب الكاتب : ليس عليك ان تقرر انت من هو قريبك . بل عليك ان تظهر نفسك قريبا لكل انسان يكون في حالة الضيق . والمركز . ليس انت، بل الاخر الذي تتوجه نحوه، وليست صفة القريب في ابراز قائمة متكاملة ، بل انت مدعو الى ابتكار القربى المناسبة . والقريب هو الشخص الذي تقترب منه ، مهما كان هذا الشخص . هكذا يصبح حب القريب ديناميكا، وذلك يتم في ممارسة الرحمة نحو الاخر. فلا تقول من بعد : فلان هو قريبي ، بل بالاحرى ، من خلال الرحمة التي امارسها اصبح قريبا لكل انسان هو بحاجة الي. اجل، يصبح الاخر قريبا ، وذلك الذي تشمله رحمتي وتجعله قريبا علي. فلا يحق ان اطرح السؤال: " من هو قريبي ؟" بل علي ان اتساءل لمعرفة ، ان كنت احاول الاقتراب منه واصبح له قريبا.
السامري مثال للقريب .
وفي تعليم يسوع هذا لا تنقصه الجرأة بان يجعل من السامري مثالا يحتذى . ويقصد بذلك، ان غريب خارجا عن شعب اسرائيل لهو قادر على فهم الوصية بحسب الروح اكثر من اليهودي .
والسامري ، يعلم هو الاخر ، بشريعة عدم الاقتراب من المدنف الى الموت ، وهي وصية مدرجة في توراة السامريين . لكنه لا يتردد من تجاوز الممنوعات ، متى تحدد ممارسة وصية المحبة . لقد اخذته الشفقة . وهذه الشفقة تملئ على نفسه السلوك التي ينبغي عليه اتخاذه . والشخص الذي كان يجب اظهار الكراهية نحوه يصبح الشخص الذي يجيد ممارسة المحبة احسن من الاخرين . لقد اجاد السامري ممارسة المحبة متجاوزا الشريعة . وفي هذا الموقف ، ملء المفارقة ، اذ يعطي يسوع مثالا يحتذى ، رجلا منشقا ، عدوا ، يحتقره اليهود بنفس الدرجة اشبه بالوثنيين . ان موقف هذا الوثني المكروه الذي يدعي اليهودي للاقتداء به ان اراد الدخول في الحياة الابدية.
لذا، علينا النظر في قصة السامري لا كمثل ، بل كأمثولة لدرس رائع يطرحه يسوع وهو موضوع يطرحه لوقا مرارا في انجيله. ويشير مثلا، الى البرص العشرة واحد منهم هو سامري ، يرفع التمجيد لله ( لوقا 17 / 11 – 19 ) . لقد اجاد لوقا إعطاء القيمة للوثنيين ، المدعوين هم ايضا للخلاص (لوقا 3 / 6 )
كما تعزز قصة السامري التعليم المحبب على يسوع : " ان فعل الخير لهو اكثر اهمية من احترام الشريعة " لقد شفى يسوع في يوم السبت ، لانه اعتبر انه مسموح عمل الخير ، في ذلك اليوم اكثر منه عمل الشر ، وخلاص حياة اكثر منه فقدانها ( لوق 6 / 9 ) ، لقد سمح باخراج حيوان واقع في البئر في يوم السبت ( لوقا 14 / 5 ) ، كان يحرمه الاسينيون في قمران . ففي قصة السامري ، لهو اهم بكثير اسعاف شقي مدنف من الموت من احترام الشرائع الطقسية حول الطهارة التي يعطيها كاتب الشريعة اهمية قصوى.
كما ان قصة السامري تدعم ما جاء على فم يسوع : " عاملوا الاخرين مثلما تريدون ان يعاملوكم . هذه هي خلاصة الشريعة وتعاليم الانبياء " ( متى 7 / 12 ، لوقا 6/31 ) . ولن يعرف الكاتب من هو القريب ، الا متى يكون هو نفسه بحاجة الى الخلاص وبطريقة غير مباشرة ، يدعوه يسوع ان يجعل حالته مشابهة بحالة الفقير المجروح ، ويتعلم كيف ان قريبا حنونا يستطيع ان يعمل له.
وفي حالة الفقر هذه ، سيعرف من يكون القريب ذاك الذي يمارس الرحمة تجاهه ، حتى ان كان سامريا . ولكنه مدعو ايضا ان يمتثل بالسامري ، الذي مارس الرحمة تجاه المجروح ، وما يشتهي ان يعمله الناس له، عليه ان يعمله نحو الاخرين. وعليه ان يعترف انه بحاجة الى معونة الاخرين ، وعليه ايضا ان يقدم المساعدة نحو الاخرين . وهكذا يتعلم ان القريب ليس من هو بحاجة الى الاسعاف ، بل الذي يقدم المساعدة الى الاخرين ايضا.
المسيح هو السامري
ان المسيحي الذي يقرا هذا النص اليوم ، يستطيع بدون اية صعوبة ان يرى في السامري وجه يسوع المسيح ، وفي المجروح المتروك المدنف من الموت ، الانسان الخاطئ الذي يخلصه، وكل انسان مدعو ان يمتثل بالمجروح الذي يخلصه يسوع المسيح . ولا يمكنه ان يتخذ موقف الامبالي ازاء الضعيف . لان الرحمة تشمله ، وهو مدعو الى الاقتداء برحمة مخلصه ، وعليه ان يمارس الشفقة اسوة بمعلمه الذي اشفق عليه ( متى 18 / 33 )
ثمة ثلاث عبارات يستخدمه لوق من شأنها ان تبرر هذه القراءة ، الاولى العبارة الواردة في نص (لوقا 10 / 33 ) تشير الى شفقة السامري لدى معاينته للجروح . والترجمة الحرفية تشير الى التاثير الى حد الاحشاء . وقد استخدم لوقا هذا الفعل ليشير الى تاثير المسيح امام ارملة نائيين التي فقدت ابنها ( لوقا 7 /13 ) وما اظهرة ابو الابن الضال لبنه الذي يمثل الله ، متى يرى ابنه راجعا ( لوقا 15 / 20 ) ، وكلمة " الرحمة " التي يختص بها السامري ، هو ذلك الذي مارس الرحمة ( لوقا 10 / 37 ) هذه الكلمة ينسبها لوقا الى الله الذي اظهرها نحو اسرائيل ( لوقا 1 /50 ، 54 ، 72 ، 78 ) واخيرا يعلن " رجوع " السامري ( لوقا 10 / 35 ) الى رجوع الملك ، صورة المسيح في مثل الوزنات ( لوقا 19 / 15 ) .
هكذا نتقدم في قراءة النص ، وندعى الى الاقتداء بالله الحنون " كونوا رحماء كما ان الله اباكم رحيم " ( لوقا 6 / 36 ) .
تفسير اوريجانيس
لقد اعتاد اباء الكنيسة الاسترسال في تفسير الكرستولوجية لهذا الامثال . وان كان التفسير لا يلائم بعد العقلية المعاصرة .وقد اجاد اورجنيس ، اذ يرى في الرجل المجروح ادم ، واورشليم هي الفردوس اريحا : العالم ، اللصوص : قوى الشر، الجروحات : الخطايا ، السامري ، المسيح ، القرابة : جسد المسيح ،الخمر: تعليم المسيح الذي يشفي ، الزيت تعليم المحبة والرحمة ، الفندق يمثل الكنيسة ، صاحب الفندق : الرسل وخلفاؤهم ، الديناران : العهدان القديم والجديد ، رجوع السامري : مجيء المسيح الثاني.
الفن المسيحي
واخيرا، ندعم تفسير قصة السامري بما جاء على لسان الأباء ما ظهر عبر العصور من مختلف الصور الفنية التي رسمت على الزجاج الملون في الكنائس والكاتدرائيات . ففي كاتدرائية شارتر، المبنية في القرن الثالث عشر، نشاهد مشهد المسافر الذي عري من ملابسه، يشير الى حالة ادم وحواء في الفردوس . وكذا المشاهد في مدينة بورج وسانس . وذا ما يكتشف المؤمنون هذه المشاهد مرسومة على الزجاج الملون ، يمثلون انفسهم بالرجل المجروح ، المتروك على قارعة الطريق ، ويسعفه السامري ويفهمون ان المسيح هو السامري.
( مقتبس من مجلة الحياة الروحية عد 728 (1998 )