آلام يسوع وموته
هـ. بركهوف ص 315
انتهت حياة يسوع الى حكم بالإعدام وآلام وموت. يشغل هذا الحدوث والنمو نحوه نصف الروايات الإنجيلية تقريباً. بين حياة يسوع وبين موته إذن علاقة شديدة. فلنحذر من ان نجعل
آلام يسوع وموته
هـ. بركهوف ص 315
انتهت حياة يسوع الى حكم بالإعدام وآلام وموت. يشغل هذا الحدوث والنمو نحوه نصف الروايات الإنجيلية تقريباً. بين حياة يسوع وبين موته إذن علاقة شديدة. فلنحذر من ان نجعل منه "كاريكاتورية كأن يسوع جاء الى العالم ليموت فقط. إنه جاء ليعيش، لكن ليعيش كذا حياة حتى انه لا بد من ان يهلك في عالمنا هذا. لذلك يجب ايضاً ان لا نعتبر آلام يسوع وموته ملتقى مؤسفاً بين ظروف. فيسوع بآلامه وموته استنتج – مضطرا وطوعاً بنفس الوقت – النتيجة المتساوقة من المسلك الحياتي الذي اختاره. وبما انه استنتج هذه النتيجة الأخيرة حصلت حياته على ذلك الجد الأخير الذي يسمعه الإنجيليون – ونحن من ورائهم – في أقواله وأعماله. إنه قرَّب الى الناس "ملكوت الله"، وكان مستعداً لأن يدفع عنه الثمن بنفسه. في هذا القربان إنما تَمّ الكيانُ الإنساني الجديد الذي جاء به وتجلّى فيه تجلياً.
في مرقس (16 فصلا) أولى نبوة بالآلام منذ 8: 31، لكن ظِلَّ الآلام يسبق الى 3: 6، فدُعي مرقس "قصة آلام لها مقدمة موسَّعة" (م. كيلر). الإنجيليون الآخرون يفعلون نفس الشيء، خاصةً يوحنا. للعلاقة بين حياة يسوع وموته تُهم كلمتان أصيلتان منه بغض النظر عن السؤال هل لُفظتا في نفس المناسبة ام لا: لوقا 12: 49 و 50 "جئتُ لألقي على الأرض ناراً، وما أشدّ رغبتي ان تكون قد اشتعلت! وعليّ ان اقبل معمودية، وما أشد ضيقي حتى تتم!". يأتي يسوع ليحوِّل وضع العالم (نار)، لكنه عالم بأنه هو نفسه يذهب ضحيةً (معمودية). بعدما حمَّلوا الجانب اليهودي وحده المسؤولية عن موت يسوع، يميلون الآن الى انتساب الحكم بالإعدام الى بيلاطس او الى جماعةٍ معدودة، والى بواعث منفصلة نوعاً ما عن سلوك يسوع نفسه. مهما كان الوضع التاريخي بالضبط، فإن الإيمان يُبصر هذه الحياة وهذا الموت (في السياق الكبير لطريق الله مع إسرائيل ومع يسوع) أمراً ضرورياً، كان لا بُد منه، لو حدث، ان يحدُث هكذا في ما بين كل الشعوب، مع اختلافات الزمن والمكان طبعاً.
جاء يسوع ليُتَمِّم العهد، في شخصه وفي ترُّفه. أو، كما قال هو بلُغة عصره: ليقرِّب ملكوت الله. حان وقت حفلة الاتحاد بين الله والانسان. فيدعو الناس دعوةً عامة الى الوليمة الملكية. ولكن إسرائيل المدعو بفم ناطقيه الرسميين يرفض ان يشترك فيها. في حين يعطي الله الإنسان الجديد الذي يمكن ان تتجدّد حوله الانسانية جمعاء، في هذا الحين يعطي الله الإنسان الجديد الذي يمكن ان تتجدّد حوله الإنسانية جمعاء، في هذا الحين بالذات يتجلّى بآخر درجة من الجليان ان لا مكان لملكوت الله في هذا العالم. لا يُطيق الناس ان يتحمّلوا قُرب ملكوت الله. لم يشُك يسوع مرةً في ان مشيئة الله ستتم يوماً ما في الأرض كما في السماء. ولكن كان عليه ان يكتشف ان طريقه لا يتوجّه مباشرةً الى إتمام الملكوت. كان عليه ان يكتشف ان بين الاثنين هاويةً سحيقة عليه هو ان يجتازها. هذا الاكتشاف استوعبه يسوع خطوةً مع أبيه في الصلاة وأدمجه في دعوته تجاه الناس. قد دعا يسوع الناس الى الملكوت. ظهر ان هذه الدعوة غير كافية. أراد الله أزيد منها. وكان الناس في حاجة الى أزيد منها. فهكذا قبل يسوع ان يشرب الكأس عن آخرها. لأنه: "إن حبة الحنطة التي تقع في الأرض، إن لم تمت تبق وحدها. وإذا ماتت، أخرجت ثمراً كثيراً" (يو 12: 24).
ما يحدُث هنا بين الله والابن والناس يسبُر غورَه البعيد إنجيل يوحنا أحسن من غيره من الأنجيل. يسبق الكلمة المذكورة أعلاه في 12: 23 "أتت الساعة التي فيها يُمجِّد ابن الإنسان". وبعدما انطلق يهوذا الى خيانته يقول يسوع: "الآن مُجِّد ابن الإنسان ومُجِّد الله فيه" (13: 31). هذا وإنما يبدو كأن العكس يحدُث. ولكن "مَجدَ" الله، أي ظهور جوهره، هو: تنازُلُه، انعطافُه، حبُّه الذي لا يتوقّف عند أي شيء. مجدُه يزداد تجلّياً كُلما نقص في الإنسان ما يتجانس مع مجده هذا، كُلما توحشت الدنيا حواليه وأظلمت. وعلى المقلوب: تزداد إنسانية الابن الحقيقية تجلّياً كُلما جعل نفسه تحت تصرُّف هذا المجد وذهب بنُكران الذات الى اقصى الحدود. فهكذا يبقى الآب والابن متمسكين بعضُهما ببعضٍ في القصد الثابت، ضد كل مقاومة بشرية، ان ينتصر المجد، الحب، وفاء العهد. لا تقدر المقاومة ان تكسر الشركة القائمة بين يسوع والآب، الشركة القائمة بين يسوع والناس إذن. كُلما تَعاظَم الانهيار الخارجي، كُلما تعاظمت التجربةُ الداخلية، تزايد تجلّي الحب، تزايد "ارتفاع" الابن (يو 3: 15). يبدو في موت يسوع كأن العهد ينهار نهائياً. ولكن الابن يظلّ متمسكاً بالآب وبالناس حتى النهاية. فهكذا ما انهار العهد بل تم. ما معنى آلام يسوع وموته إلا تضامنه المواظب المتمم مع الناس من اجل الله ومع الله من اجل الناس.
قد عرف يسوع، أو بالأحرى آمن ضد كل الظاهر بأن طريقه للآلام كان قسماً ضرورياً لطريق الله الخلاصي. أَوَعرف – ما عدا هذا – السبب والهدف له ايضاً؟ الرأي التقليدي ان يسوع كان يعرف بالضبط لماذا التألُّم يناقض عدداً من الوقائع الصحيحة (لأنها "جارحة"): نزاعه في صلاة جثسماني (مر 14: 32-42) وشكايتُه على الصليب "إيلوي، إيلوي، لما شبقتاني؟" (مر 15: 34). في الحالتين يظهر يسوع إنساناً مجرَّباً ينفُر من الطريق. في جثسماني لا يريد التألُّم هو، إلا أنه يريد مع ذلك ان تَتم مشيئةُ الله الخلاصية، فتنتهي التجربة في طاعةٍ جديدة. وعلى الصليب يكتشف في ضيقه طريق البار التألُّمي في مز 22. ولكن إذا حسبنا حساباً لأسلوب الإيراد اليهودي وجب علينا ان نقبل ان يسوع طبَّق كل المزمور على نفسه، فحينئذ تنتهي التجربة الى اتكالٍ جديد (انظر مز 22: 4-6 و 10-11 و 23-32). فيُستحسن ان نتجنب التكلُّم الكثير عن "الكون مهجوراً من الله". إنما مُجِّد الابن ومُجِّد الآب فيه (كلام يو) في مضمون الكلمات مثل "تجربة" و "طاعة" و "توكُّل". أريخ فروم يُشير الى ان يو 19: 30 "تمَّ" يحاول إيراد آخر كلمة مز 22 (بدلاً من الأولى).
لا نقول بذلك إن يسوع مطيع طاعةً عمياء. إنه كان يتلمّس طريقه الإيماني بواسطة التناخ...
ما فكر فيه يسوع و (بعد القيامة) حلقةُ تلاميذه لما آمنوا بأن العهد لم يُلغَ بل إنما ثبُت بآلام يسوع وموته؟ كانوا يفكّرون في طريق الله ووعوده في التناخ. في هذا الضوء وحده كان ممكناً ان تُرى آلام يسوع وتُفهم. ففي أية عناصر كانوا يفكرون؟ في احد الاعترافات المبكرة نقرأ ان "المسيح مات من اجل خطايانا كما جاء في الكتب" (1قور 15: 3). يُذكِّرنا هذا بالتقليد في العشاء الأخير الذي أقامه يسوع مع تلاميذه والذي فيه تجتمع في الكلمات "عهد (جديد)" و "دمي" و "عن كثيرين". قطع العهد مع موسى فعلاً في الدم (خر 24: 8). فالعهد الجديد (إر 31: 31) ايضا لا يُقطع إلا في بذل الحياة. فيجب ان يكون بذل حياة عبدٍ متألم لله يحمل نيابياً خطايا الكثيرين (إش 53: 12). من كان مطّلعاً على طريق إسرائيل وما حدث فيه مع إلهه كان له أمراً بديهياً ان آلام يسوع وموته يجب ان تُقرأ في هذا الضوء. خيانة العهد أمر كذا فظيع ان "النائب" لا يطيق اداء المصالحة إلا بثمن حياته.
"النائب"، "النيابة". في هذا المفهوم ننفُذ الى آخر لُباب خلاصنا وأعمقه ويُطرَح السؤال إذا امكن هذا اللُباب ان يُنفذ ايضاً ويُنوَّر. أضحى شهود التناخ الكبار يشعرون اكثر فأكثر ان إسرائيل في تباعُده عن الله كان يحتاج الى واحد يجمع بين الطرفين مصالحا بتمثيل الناس لدى الله وتمثيل الله لدى الناس. وبدا عالمُنا البشري عاجزاً عن إبداع هذا الإنسان. ففي يسوع الابن يخلق الله هذا الإنسان فعلاً جديدا فريدا بديعا في مصارعته الطويلة من اجل إبقاء العالم الإنساني. خلق هذا الإنسان الجديد إذن في ذاته فعل نعمةٍ وخلاص. كلُّ كيانه منبعث من خيانة العهد، هو موجود "من اجل خطايانا"، هو إذن حركة الله التي بها يغفر ويُصالح. "كان الله في المسيح مصالحاً العالم مع نفسه بما انه لا يُحاسبهم على زلاتهم" (2قور 5: 19). كل جانب من جوانب حياة يسوع كان تحت هذا الشعار. فينبغي ايضاً ان تنبثق من هذا الممثِّل، من هذا الوسيط، القوى التي تربُطنا اليه وهكذا الى الآب. "وإذا كان أحدٌ في المسيح، فهو خليقة جديدة: زال القديم وهاهو الجديد" (2قور 5: 17). لكن هذا لا يحصُل إلا بعدما بلغت الطاعة لله والتضامُن مع الناس الرافضين المُعادين أقصييهما، عندما ظّل الممثِّل النائب متمسكاً بالاثنين موحِّداً بينهما، حتى إذا كان يبدو كأن لا أحد منهما يعود يُمدِّه بأي باعث على ذلك. لا يبدو طابع هذه الحياة الممثِّل المصالح إلا في قمتها وفي عمقها: في الموت. من هذه النقطة ستنطلق بعد قليل قوةُ الروح الى العالم. فلذلك يُمكن تلخيص كل الخلاص المضَّمن في يسوع بألفاظٍ مثل: صليب، آلام، موت، دم (يعني: بذل الذات). فيه يُسوّي الوسيط بين نفسه وبين أعدائه وأعداء الله الى اقصى الحدود، يتَّخذ الذنب كلَّه على نفسه، يحمله، يمحوه عن آخره نيابياً، باسم الناس ومن اجل الناس. "ذاك الذي لم يعرف الخطيئة جعله خطيئة من اجلنا كيما نصير نحن برَّ الله فيه" (2 قور 5: 21).
في الصليب يحصُل اللقاء الحاسم بين الإنسان العتيق وبين الإنسان الجديد وبين الله. هنا يُفضَح الإنسان عدواً لنوايا الله الأخيرة المجدِّدة في حياته فضحاً نهائياً. ولكن الثمن الذي نحن نرفض دفعه في سبيل نجاتنا وتجدُّدنا، اي ثمن بذل الذات دون الله ودون القريب، يدفعه هنا الإنسان الجديد نيابياً.. فيتجلّى فيه سرُ الإنسانية الجديدة الحقيقية: الحفاظ على الحياة ببذلها، الإثمار بالممات. فيتجلّى هنا الله ايضاً تجلياً حاسماً نهائياً: الحب المقدس الذي يحب الخاطئ ويبغض الخطيئة، والذي يجعل الخطيئة تُحمَل لكي يُشقّ الطريق الى الخاطئ.
ما يسبق هو طريقةٌ واحدة للتعبير عن ضرورة آلام يسوع وموته للخلاص. في الكتابات الرسولية اكثر من طريقة واحدة، وفي تاريخ الكنيسة طرائق عديدة. يُحاولون كل مرة من جديد، ولكنهم لا ينتهون الى اتفاق لاهوتي. هناك غموض يبقى ويجعلنا عاجزين عن التعبير عن ما الربط الدقيق بين الموت والخلاص. ومن ظن انه قادر عليه جعل الربط شيئاً سطحياً عقلانياً بشرياً. الكنيسة البزنطية في تفكيرها الأُنطولوجي كانت تهتم بشخص المسيح اكثر منه بعمله، وهذا التفكير كان مسيطراً في المجامع الكبرى.
في الكتابات الرسولية يُركَّز في كون الآلام والصليب أساساً للفداء. التألُم يُروى للكنيسة رواية خروجها وفدائها. قد نجد اقدم تفكير في أع 2: 23/ 3: 18/ 4: 27-28 (ذاك الذي أُسلم بقضاء الله وعلمه السابق فقتلتموه اذ علَّقتموه على خشبة بأيدي الكافرين" – "فأتم الله ما أنبأ من ذي قبل بلسان جميع الأنبياء، وهو ان مشيحه سوف يتألم" – حقاً، تحالف في هذه المدينة على عبدك القدوس يسوع الذي مسحته هيرودس وبنطيوس بيلاطوس والأمم وشعوب إسرائيل، فأجرَوا ما خطته يدُك من ذي قبل وقضت مشيئتُك بحدوثه"). هنا الصليب أولاً علامة الذنب البشري الذي يمحوه الله في القيامة، ويفضَّل ان يُسمى يسوع "عبداً" وهذا يُشير الى إش 53 (انظر أع 3: 13 و 26/ 4: 27 و 30) بحيث ان موته لا يقع خارج خطة الله الخلاصية. لكن كيف ولماذا؟ يوحنا يحاول ان يجيب على هذا السؤال بواسطة مفهوم "المجد"، لكنه وحيد في ذلك. بولس خاصةً حاول التعبير عن معنى الصليب، ليس بمفاهيم دقيقة بل بصُوَر رمزية متحرّكة مقتبسة من ميدان الحق (روم 8: 3/ غل 3: 13) وميدان العبادة (روم 3: 25/ 1 قور 5: 7) والميدان المالي (روم 3: 24؟/ 1 قور 6: 20/ غل 3: 13/ قول 2: 14/ قارن مر 10: 45/ 1 بط 1: 18) والميدان العسكري (قول 1: 13/ 2: 15/ قارن مر 3: 27/ عبر 2: 14). الكلام الاستعاري لا يوجد عند بولس وحده. الصور تترابط وتتداخل. المجاز العبادي سائد عند "عبرانيين"...